كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويقول الحق: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}. وعندما نبحث في الحروف الأصلية لمادة كلمة البروج نستطيع أن نرى المعنى العام لها. والحروف الأصلية في هذه الكلمة هي الباء والراء والجيم وكلها تدل على الارتفاع والظهور.
فيقال: هذه امرأة فيها بَرَج أي أن عيونها واسعة وتحتل قدرًا كبيرًا من وجهها وتكون واضحة، فالبَرَجُ هو الاتساع والظهور.
والإبراج عادة كان بناؤها مرتفًا كحصون وقلاع نبنيها نحن الآن من الأسمنت والحديد. والقصد من ومشيدة أي أنها بروج تم بناؤها بإحكام، فالشي قد يكون عاليًا ولكنه قد يكون هشًا. أما الشيء المشيد فهو من الشِّيد وهو الجص، ومن الشَّيْد وهو الارتفاع، والمقصود أن لبنات البرج تلتحم أبعاضها وأجزاؤها بالجص فهي مرتفعة متماسكة.
إنك إذا رأيت جمعًا وقوبل بجمع فمعنى ذلك أن القسمة تعطينا آحادًا. فساعة يدخل المدرس الفصل يقول لطلابه: أخرجوا كتبكم. فمعنى هذا القول أن يخرجٍ كل تلميذ كتابه. وعلى ذلك يكون القياس. فلو بني كل إنسان لنفسه برجًا مشيدًا لجاءه الموت.
والجمع مقصود أيضا: أي لو كنتم جميعا معتصمين ببرج محاط ببرج آخر وثالث ورابع، كأنه حصن محصن فالحصون في بعض الأحيان يتم بناؤها وكأنها نقطة محاطة بدائرة صغيرة. وحول الدائرة دائرة أخرى أوسع. وبذلك تجد الحصن نقطة محاطة بعدد من الحصون. والموت يدرك البشر ولو كانوا في برج محاط ببروج. وكلا المعنيين يوضح قدرة الحق في إنفاذ أمره بالموت.
وساعة يتكلم سبحانه عن الموت وعن الحياة في الجهاد فهو يريد أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ لأن الدين هو نور طارئ على ظلمة، والذين يعيشون في الظلام يكونون قد ألفوا الظلمة والفوضى وكل منهم يعربد في الآخرين. وعندما جاء الدين فرّ بعضهم من مجيء النور؛ لأن النور يحرمهم من لذات الضلال؛ ولأن النور يوضح الرؤية.
لذلك يوضح سبحانه وتعالى أنه أتى بالموت ليؤدي حاجتين: الحاجة الأولى: أنّ مَن يؤمن عليه أن يستحضر الموت لأن جزاءه لا يكون له منفذ إلا أن يموت ويلقى ربه، ويعلم أن الحاجب بينه وبين جزاء الخالق هو الموت، فساعة يسمع كلمة الموت فهو يستشرف للقاء الله؛ لأنه ذاهب إلى الجزاء.
والحاجة الثانية: أن غير المؤمن يخاف الموت ويخشاه ولا يستعد له ويخاف أن يلاقي ربه. إذن فكلمة الموت تعطي الرَّغب والرَّهَب. فصاحب الإيمان ساعة يسمع كلمة الموت يقول لنفسه: إن متاعب الدنيا لن تدوم، أريد أن ألقى ربي.
ولذلك يجب أن يستحضر المؤمنون بالله تلك القضية. وحين يستحضرون هذه القضية يهون عليهم كل مصاب في عزيز؛ فالإنسان ما دام مؤمنًا فهو يعرف أن العزيز الذي راح منه إما مؤمن وإمَّا غير مؤمن، فإن كان مؤمنًا فليفرح له المؤمن الذي افتقده؛ لأن الله عجَّل به ليرى خيره، فإن حزنت لفقد قريب مؤمن فأنت تحزن على نفسك. وإن كان الذي ذهب إلى ربه غير مؤمن، فالمؤمن يرتاح من شره. إذن الموت راحة، والذي عمل صالحًا يستشرف إليه، وهذا رَغَب، أما الكافر فهو خائف؛ وهذا رَهَب.
ولذلك فمن الحمق أن يحزن الإنسان على ميْت، وعليه أن يلتفت إلى قول الحق: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}.
ويتابع الحق: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}. ومثل هذا الكلام أليق بمن؟
الذي يقول عن الحسنة إنها من عند الله فهو يؤمن بالله وهذه الكلمة لها في ذهنه تصور. والآية لا تريد هذا الصنف من الناس ولكن بعضهم يريد أن يفرق بين محمد وربه. فينسب الخير والحسنة لله، وينسب الشر والسيئة لمحمد، وعلى هذا فالذين قالوا مثل هذا الكلام إما أن يكونوا من المنافقين الذين أعلنوا إسلامهم وولاءهم لرسول الله وفي قلوبهم الكفر، وإمَّا أن يكونوا من بعض أهل الكتاب لأنهم يؤمنون بالله ولكنهم لا يعترفون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء وأولئك ينظرون إلى الأمر الذي فيه خير على أساس أنه من عند الله، ويلقون اتهامًا باطلًا لرسول الله أنه مسئول عن الشرور التي تحدث لهم.
كأنهم يريدون أن يقيموا انعزالًا بين محمد وربه.
لا. فسبحانه لا يتيح لهم ذلك؛ فقد أنزل قرآنًا يتلى إلى أبد الآبدين: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80].
والحق يقول: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
فلا أحد يملك أن يصنع مضارة بين محمد وربه؛ لأن محمدًا رسول من عند الله مبلغ لقول الله ومنهجه، وسبحانه يقول: {وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 74].
والحق سبحانه وتعالى لا يرضى عن عبد يستغفر الله فقط، ولكن لابد أن يذهب العبد ويطلب من رسول الله أن يستغفر له الله، فلا أحد يمكنه أن يقيم صلحًا مع الله من وراء محمد رسول الله، فلا تفرقوا بين أمر الله وأمر رسول الله، ومن يريد أن يصنع مضارة بين الله ورسوله بأن يقول عن الحسنة إنها من عند الله، وأن السيئة من عند محمد، فهذا قول خاسر.
ما حكاية هذا القول؟ إنهم إن ذهبوا إلى حرب فغنموا قالوا: إن الله أسعدنا بالغنائم. وإن هُزِموا قالوا: إن محمدا هو الذي أوقع بنا الهزيمة، وكأن لمحمد تصرفًا دون تصرف الله. فإياك أن تُخدع بمن يحاول أن يعزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه.
إن محمدًا قد بعثه الله وأنزل عليه القرآن.
وكان رسول الله حين نزلت الدعوة يأمل أن يستجيب له القوم الذين يؤمنون بالله وهم أهل الكتاب. وكانوا أقرب إلى قلبه من القوم الذين لا يؤمنون بالله وهم المشركون، وكان هناك معسكران: معسكر الفرس، ومعسكر الروم، وكان معكسر الفرس يعبد النار- معاذ الله- أما معسكر الروم فهو يؤمن بالله وبالكتب السابقة على رسول الله ولكنه كافر بمحمد.
والذي يؤمن بالله كان قريبًا إلى قلب محمد ممن كفر بالله، وهذا دليل على أن عصبية محمد قد أتت له من الله. وقد ينصرف المعنى إلى اليهود. فحينما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان من المصادفة أن تقل ثمارهم ومزارعهم؛ فقالوا: مزارعنا وثمارنا في نقص منذ قدم هذا الرجل. وهل كان ذلك الأمر مصادفة أو أننا نجد له تعليلًا ماديًا؟
فحينما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أنكروه بعد أن كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، وسلب مجيئة منهم السلطة الزمنية التي كانت لهم؛ لأنهم كانوا أهل مال، ويتعاملون بالربا ويثيرون العصبية، ويتاجرون من أجل أن تظل لهم السيادة، وهم أهل علم بالكتاب وحاولوا التجارة بكلمات الله.
فكانت لهم السيادة من ثلاث جهات: علميًا وماليًا ومنهجيًا.
وعندما جاء الإسلام ألف بين الأوس والخزرج فبارت أسلحتهم وضاعت منهم السلطة التي صنعوها بالتفرقة، وضاعت منهم سيادة المال؛ لأن الإسلام حرم الربا، وضاعت منهم سيادة المنهج لأن الإسلام كشف تحريفهم للكتاب وأنزل الله كتابا- وهو القرآن- غير قابل للتحريف.
وهكذا انتهت وسائل السيطرة، لذلك وقعوا في الحزن وانشغلوا بهذا الهم. وكان الواحد من اليهود لا يسارر الآخر من اليهود ولا يناجيه إلا في أمر محمد. وما دامت هذه المسألة قد شغلتهم إلى هذه الدرجة فلابد أنها قد شغلتهم عن الزراعة والاهتمام بها.
هم انشغلوا عن الأسباب فكانت النتيجة هي ما حدث. ولكنهم حاولوا إلصاق ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من الصعب عليهم أن يفهموا الأمر الحادث لهم، وإمّا أن يكون تفسير ذلك هو أن السماء أرادت لهم عقابًا لأنهم حاولوا المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك شغل وقتهم عن الأخذ بالأسباب. وإمّا أن يكون ذلك من آفة سماوية فلماذالم يلتفتوا إلى أن دين محمد هو المنقذ لهم مما هم فيه؟
لقد كانوا يستعزون به. لكنهم لم يؤمنوا به {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} فنزل بهم أكثر من عقاب. فالذين كانوا يتعاملون مع اليهود بالربا امتنعوا عن ذلك، وكذلك نقصت الزروع والثمار.
إذن فالمسألة جاءتهم بنقص من الأموال؛ فقالوا ما قاله الله مما أورده الحق على ألسنتهم: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ}. أي كل من الحسنة والسيئة من عند الله وما الحسنة وما السيئة؟
الحسنة هي الظفر والغنيمة والسراء والرخاء والخصب. والسيئة هي الهزيمة والقتل والضراء والبؤس والجدب. هذا ما فهموه، ونحن- المؤمنين- نفهم الحسنة فهمًا دقيقًا؛ فالحسنة في الشرع هي ما يأمر به الله، والسيئة هي ما ينهى عنه الله؛ بدليل أن المؤمن قد يصاب في عزيز لديه ثم يقف موقفًا إيمانيًا في استقبال هذه المصيبة ويقول: إن حزني لن يرده فالأفضل أن أكسب به الجنة. ويزيد على ذلك: يكفيني عزاءَّ الأجرُ عليه، فأنا لم أكن سآخذ منه طيلة حياته مثل الأجر الذي سآخذه في صبري على مصيبتي فيه.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهنا بقوله: إياك أن تظن أن الحسنة هي ما تستطيبه نفسك، أو أن السيئة هي ما تشمئز منها نفسك، لا، فالمصاب في عُرْف الشرع هو من حُرم الثواب. ولذلك جاء القول: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} أي أن الحسنة والسيئة من عند الله.
وهل يصنع الله سيئة؟ ونقول: نستغفر الله، فالسيئة في نظر الإنسان والحسنة في نظر الإنسان، وكلها من عند الله، ولكن إذا نسينا الفعل إلى الله فكل ما يصدر عنه حسن، وافتقاد المقاييس الصحيحة هو الذي يتعب. وعندما نحاول أن نحسب مثل تلك الأمور بحساب الكمبيوتر تستقيم لنا النتائج.
ومثال ذلك: تلميذ أهمل في المذاكرة، وفي حضور الدرس لذلك فهو يرسب آخر العام، ولكنه ينظر إلى الرسوب على أنه سيئة، ولكنها في عرف الحق عمومًا حسنة. وحينما وضع الله قانون أن من لا يستذكر يرسب، فهذا إحياء للحسنة في آلاف غيره، ويكون الراسب نموذجًا واضحًا ووافيًا وتطبيقيا، وخاضعًا لسنة الكون. وكذلك الذي لم يزرع أرضه أو تكاسل عن الحرث أو أهمل الري، فهو يأتي يوم الحصاد ولا يُؤْتي ثمارًا وهذا أمر سيئ بالنسبة له، أما بالنسبة لقضية الحق الكونية في ذاتها فهي حسنة؛ لأن ذلك يدفع كل واحد إلى عدم إهمال أي سبب من الأسباب؛ فالمصاب بنتيجة عمله يفسر المصيبة على أنها سيئة؛ لأن فيها مساءة وإضرارًا به، فالمصاب بنتيجة عمله يفسر المصيبة على أنها سيئة؛ لأن فيها مساءة وإضرارا به، ولكن لو قاس مسها له بما فعله لوجد أن ذلك هو سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وحين يضع الحق سبحانه وتعالى سننًا في كونه فالذي يأخذ بالأسباب يعطيه، ويحرم سبحانه من لا يأخذ بالأسباب.
وعندما نقيس الأمور بهذا المقياس نرى الناجح هو المجدّ، والمتكاسل هو الراسب، والنتيجة كلها من عند الله تقنينًا كونيا.
والحق سبحانه وتعالى حينما يعرض أقوال طرف فإن كان مقرًا بما فيه يتركه من غير تعليق عليه، وإن كانت قضية باطلة يكر عليها بالحجة ليبطلها ويدحضها.
وهذا يلفتنا إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يريد أن نلف قضايا الخصوم لفًا بحيث لا نعرفها، ولكنه يعرض قضية الخصوم عرضا ثم يكر عليها بالنقد ليربى- كما قلنا- المناعة الإيمانية، حتى لا تفاجئ قضية كفرية عقيدة إيمانية؛ فسبحانه يعرض قضايا الكفار ويوضح لنا: سيقولون كذا فقولوا لهم كذا.
مثال ذلك: عندما قالوا: إن الله اتخذ ولدًا قال الحق: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} [الكهف: 5].
فهو سبحانه يعرض قضايا الخصوم؛ لأن الذي يحاول أن يلف قضية الخصوم يكون مشفقًا منها، لكن من يعرضها ينبه عقل السامع إليها ليبطلها ويقول: هاي هي ذي نقاط الضعف في هذه القضية.